فصل: تفسير الآية رقم (68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (62- 63):

{إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}.
التفسير:
إن الذي يقصّه القرآن الكريم من أحداث ومواقف، هو القصص الحق، لأنه منزل من الحق سبحانه وتعالى.. ومن الحق الذي تحدث به القرآن:
أنه لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأن القول بأن مع اللّه آلهة أخرى، أو أن للّه ولدا، أو زوجا- هو كذب مبين، وبهتان عظيم.. وإن من صفات اللّه إلى جانب تفرده بالألوهية، تفرده كذلك بالعزة والحكمة.. وإن عزته ليست عزة جبرية وتسلط، وإنما هي عزة قائمة بالحكمة والعدل.
هذا هو إيمان المؤمنين باللّه، وذلك هو وصفهم له.. فإن آمن به أهل الكتاب على تلك الصفة، فقد اهتدوا ورشدوا، وإن تولوا فقد ضلوا وتعسوا.
وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} وعيد لأولئك الذين أبوا أن يستمعوا إلى قوله الحق، وأن يستجيبوا لما يدعوهم الرسول إليه من الحق.
فوقوعهم تحت علم اللّه يكشف مستورهم، ويفضح أعمالهم، ويسجل جرائمهم التي سيجزون عليها.. ثم إن وصفهم بالمفسدين حكم بالإدانة عليهم، وبأنهم- بعد كفرهم- قد أصبحوا فاسدين ومفسدين، ومن كانت تلك صفته فالنار أولى به، وبئس المصير.

.تفسير الآية رقم (64):

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}.
التفسير:
هذه دعوة عادلة إلى أهل الكتاب.. يدعوهم فيها رسول اللّه، إلى كلمة يجتمع عليها المسلمون وأهل الكتاب، تلك الكلمة هى: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} فالتوحيد الخالص للّه، توحيدا مصفّى من كل ضلالات الشرك وأوهامه- هو مضمون تلك الكلمة ومحتواها.
وقوله تعالى: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} هو تعريض بأتباع المسيح الذين اتخذوا المسيح- وهو بعض الناس- اتخذوه إلها من دون اللّه.. فالمسيح هو إنسان من الناس، فكيف يتخذ الناس بعضهم أربابا وآلهة؟ إنه مهما بلغ تقديرنا وإعزازنا لبعض الناس منا، فإن ذلك لا يخرج بهم عن دائرة الإنسانية، ولا يخرج بنظرنا إليهم عن الحدود البشرية، وإن وضعناهم على الذروة منها.
وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} إلفات للمسلمين إلى ما بين أيديهم من حقّ، في تلك الكلمة التي دعوا أهل الكتاب إليها.. فإن أباها أهل الكتاب، وأعطوها ظهورهم، فإن على المسلمين أن يؤذّنوا بها في أسماع العالمين، وأن يملئوا أفواههم وقلوبهم بها، وأن يقولوها صريحة مدوية، بمحضر من هؤلاء الذين صمّوا آذانهم عنها، وأمسكوا ألسنتهم عن النطق بها.. وإشهاد أهل الكتاب على إيمان المؤمنين، هو شهادة عليهم، وحجة قائمة على موقفهم العنادىّ من دعوة الحق.

.تفسير الآيات (65- 66):

{يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)}.
التفسير:
ينكر اللّه سبحانه وتعالى على أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- دعواهم في إبراهيم عليه السّلام، إذ تدّعى اليهود أنه على دين اليهودية، وأن اليهود على دينه، كما يدّعى النصارى أنه كان على النصرانية، وأنهم على دين إبراهيم! وقد كثر جدلهم وحجاجهم في هذا.. فكان أن أنكر اللّه على الفريقين دعواهم.. {لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} فكيف يدين إبراهيم بالتوراة والإنجيل وقد سبقهما بزمن طويل؟ وليست التوراة إحالة على دين إبراهيم، حتى يكون ما عليه اليهود هو دين إبراهيم، وإنما جاءت التوراة بشريعة خاصة لليهود، وإن كانت الشرائع كلها مستمدة من مصدر واحد.. ولكن لكل دين شريعة خاصة بالجماعة المدعوة إلى هذا الدين، قال اللّه تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً} [48: المائدة].
وكذلك الشأن في الإنجيل، إذ ليس فيه شريعة، وإنما شريعة أتباع الإنجيل هي التوراة! وفى قوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} تعريض بأهل الكتاب، وبغلبة التعصب الذي أعمى بصائرهم عن النظر في البديهيات، فضلا عن المشكلات.
وقوله تعالى: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} هو استدعاء لموقف أهل الكتاب وفيما يجادلون فيه، مما في أيديهم من التوراة والإنجيل عن المسيح، وأمه، ومولده ومعجزاته، وصلبه.. فهذا الموقف على علّاته، وما فيه، من مقولات باطلة، هو أصح من موقفهم الجدلىّ في إبراهيم عليه السّلام، وفى يهوديته ونصرانيته، إذ كان الموقف الأول يستند إلى شيء.. أي شيء، على حين أن الموقف الآخر لا يستند إلا على خواء!! وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} إفحام لهؤلاء الذين يتقوّلون بغير علم، وإخراس لألسنتهم التي تجادل بالزور والبهتان.. فليس لهم مع قول اللّه قول، وليس لهم مع علمه علم.. فاللّه يعلم علما مطلقا محيطا بكل شيء.
وهم لا يعلمون من علم اللّه شيئا!

.تفسير الآية رقم (67):

{ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}.
التفسير:
هذا هو إبراهيم- عليه السّلام- وذلك هو دينه.
{ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقوله تعالى: {وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} تعريض بما عليه أهل الكتاب- اليهود والنصارى- من انحراف عن الدين القويم، الدّين الذي جاء به أنبياء اللّه إلى عباد اللّه! والحنيف هو المتعبد للّه، الراكع الساجد لعزته وجلاله، المائل عن طرق الهوى والضلال.. والمسلم، هو من أسلم وجهه للّه، وأقامه عليه وحده، دون أن يلتفت إلى سواء.
واليهود والنصارى، لم يسلموا وجههم لإله واحد، قائم على هذا الوجود، متفرد به.. إذ جعل اليهود إلههم إلها فرديّا، هو ربّهم، وقائد جنودهم، وقائم على تدبير شئونهم.. هم وحدهم.. أما الناس جميعا غيرهم، فلهم إلههم أو آلهتهم..! ولا شأن لهذا الإله أو تلك الآلهة باليهود، كما لا شأن لليهود بها.
هكذا يعتقدون.
أما النصارى فإلههم هو ثلاثة: أب، وابن، وروح قدس.. تجتمع وتتفرق.
فإذا اجتمعت كانت إلها واحدا، وإذا تفرقت كان كل منها إلها كاملا.
وهذا وذاك، على غير الحق، وعلى غير ما يدين به إبراهيم، الذي ينسبون دينهم إليه.. لأن ذلك شرك، واللّه تعالى يقول في إبراهيم: {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
فكيف ينتسب إليه المشركون؟ وكيف تصحّ تلك النسبة، أو تستقيم على وجه؟

.تفسير الآية رقم (68):

{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}.
التفسير:
بعد أن أبطل اللّه سبحانه دعوى اليهود والنصارى بنسبتهم إلى إبراهيم، الذي يدينون بغير ما كان يدين به، من توحيد اللّه، توحيدا خالصا مطلقا- بيّن اللّه سبحانه- من هم أولى الناس بإبراهيم وبالانتساب إليه، وبوصل دينهم بدينه.
وإن أولى الناس بتلك النسبة لهو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والذين آمنوا.. إذ كان دين محمد هو الإسلام للّه، والإقرار بوحدانيته، وكذلك إيمان المؤمنين بمحمد.. فكل من كان على إيمان باللّه كهذا الإيمان فهو أحقّ الناس بإبراهيم، وأقربهم نسبا إليه.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} مع ما فيه من فضل سابغ على المؤمنين بولاية اللّه لهم، وضمّهم إلى جناب رحمته، فيه زجر لأهل الكتاب وتشنيع عليهم، وطرد لهم من ولاية اللّه لهم، ومن قبولهم في المقبولين من عباده المؤمنين: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [257: البقرة].

.تفسير الآية رقم (69):

{وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69)}.
التفسير:
الشرّ يعمل دائما على أن يتحكّك بالخير، وأن يدير وجهه إليه، ليرصد كل حركاته وسكناته، وذلك ليطمئن على وجوده القائم على الباطل، وحتى يطفئ تلك الشعاعات المضيئة المسلطة عليه من الحق، والتي تهدده بفضح موقفه وسوء مصيره.
وهكذا أهل الباطل والضلال دائما، في كل أمة، ومن كل جيل، يهاجمون الحق في كل سانحة تسنح لهم، ويدبّرون له العدوان حيث وجدوا إلى ذلك سبيلا.. لأنهم يستشعرون أنهم مهددون بالضياع، وأن تلك الخيوط الواهية التي تشدّهم إلى الباطل، وتقيمهم على الضلال، هي في معرض الانحلال والتفكك، لأدنى لمسة تلمسها بها يد الحق! فهم بهذه المحاولات التي يتهجمون بها على مواطن الحق إنما يريدون أن يدفعوا خطرا- متوهّما أو متحققا- يطلّ عليهم من آفاق الحق ومواطنه.
وقد كشف اللّه سبحانه وتعالى في القرآن الكريم كثيرا من مكايد أهل الكتاب، وما يدبرون للمسلمين من شر، وما يبيّتون من عدوان.
والسلاح الأول الذي يعتمد عليه أهل الكتاب- وخاصة اليهود- في المعركة التي يدبّرونها مع الإسلام، هو التشكيك في رسالة الرسول، وفى الكتاب الذي نزل عليه.. ذلك أنهم لو كسبوا المعركة في هذه الميدان، لأغناهم ذلك عن لقاء الإسلام والمسلمين في أي ميدان آخر.. حيث لا يكون إسلام ولا مسلمون، متى قام الدليل على بطلان دعوة محمد وبطلان ما نزل عليه من عند اللّه.
ذلك هو تقدير بعض أهل الكتاب، وهو في ذاته تقدير سليم لو أنه صادف النبيّ والكتاب الذي نزل عليه، كما توهموا وقدروا.. ولكن، في كل مرة ساق فيها أهل الكتاب كيدا إلى النبي وإلى القرآن، رجمتهم صواعق الحق، فولوا مدبرين، يجرّون ثوب الخزي والخسران.
وفى قوله تعالى: {وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} ما يكشف عن بعض هذه النوايا الخبيثة، التي تنطوى عليها بعض النفوس الضالة من أهل الكتاب.. إنهم يريدون أن يفسدوا على المسلمين دينهم، وأن يقيموهم منه على الشك، بما يتأوّلون لهم من متشابه القرآن، وما يصدرون لهم من شبهات، يحيكونها من خيوط البهتان والضلال.. فبهذا إنما هم يضلّون أنفسهم، إذ اتخذوا الضلال مركبا، والزور طريقا، والجدل سلاحا، في تلك المعركة التي اشتبكوا فيها مع الإسلام والمسلمين.. إنهم قد خسروا أنفسهم من أول الطريق، إذ كانوا على ضلال وفى ضلال.. فإن كسبوا المعركة واستطاعوا أن يضلوا غيرهم، فحسبهم من الغنيمة أنهم خسروا معها أنفسهم مرتين.. مرة قبل المعركة ومرة بعدها! وقوله تعالى: {وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} قد قصر الضلال عليهم وحدهم في سعيهم الذي سعوه لإضلال المؤمنين.. وهذا يدعونا إلى أن نسأل:
كيف يقصر الضلال عليهم وحدهم، مع أنه من الممكن أن يكونوا قد أضلّوا غيرهم، بما فعلوا حين احتكاكهم بضعاف الإيمان، ممن أسلموا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، من الأعراب وغيرهم.. فكيف هذا؟
والجواب على هذا، هو أن هؤلاء الضالين من أهل الكتاب، إذ يسعون إلى إضلال غيرهم الذين استقام طريقهم على الهدى- هؤلاء إنما يضلون أنفسهم، أي يغرقونها في الضلال، وأما هؤلاء الذين أغواهم هؤلاء الضالون، وأركبوهم معهم مركب الضلال، فإنهم عبء جديد يثقل هؤلاء الضلال، ويغلظ جريمتهم، ويضاعف إثمهم.! فالواقع- والأمر كذلك- أنهم لم يضلّوا إلا أنفسهم، فيما سعوا فيه، من إضلال غيرهم، وأنهم حملوا فوق ظهورهم أوزار هؤلاء الذين أضلوهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ} [24، 25: النحل].

.تفسير الآيات (70- 71):

{يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}.
التفسير:
بعد أن كشفت الآية السابقة عن بعض النوايا السيئة التي يعيش فيها فريق من أهل الكتاب، الذين يتربصون بالمؤمنين، ليضلّوهم، وليفسدوا عليهم دينهم الذي ارتضوا- بعد هذا التفت- سبحانه- إلى هؤلاء الضّالين المضلّين من أهل الكتاب، وخاطب فيهم أهل الكتاب جميعا، إذ كان هؤلاء هم علماؤهم وأهل الكلمة فيهم.. فقال سبحانه: {يا أَهْلَ الْكِتابِ} أي يأمن منّ اللّه عليهم بكتاب من عنده، فيه رحمة وهدى ونور، فكفروا هذه النعمة، وعموا عن هذا الهدى والنور اللذين يشعّان منها: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي وأنتم تشهدون ما في آيات اللّه من عبر وعظات، وما فيها من دلائل على قدرة اللّه، وحكمته، وعلمه.. إنها تنطق بالحق لو وجدت من يسمع، وإنها لتشعّ بالنور لو وجدت من يبصر.
{يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ} ونداؤهم مرة أخرى ونسبتهم إلى الكتاب توكيد لهذه التذكرة، إن كانوا ممن يتذكرون.
وفى قوله تعالى: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ} عرض لبعض أفاعيلهم وفضح لما هم فيه من ضلال.. إنّهم يلبسون الحق بالباطل، أي يغطّون وجه الحق، ويسترونه بدخان الباطل والضلال، فيشتبه على الناس وجه الحق، وتتفرق بهم السبل إليه.. وإنهم ليكتمون الحقّ الذي يعرفونه من أمر محمد والقرآن الذي نزل عليه، وليس ذلك الكتمان عن جهل، وإلا لكان لهم ما يعذرون به، ولكن كتمانهم هذا عن علم ومعرفة، وتلك هي مصيبة المتكبرين، وآفة الحاسدين، الحاقدين. {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؟

.تفسير الآية رقم (72):

{وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)}.
التفسير:
من مكر بعض الطوائف من أهل الكتاب، وكيدهم للإسلام والمسلمين، تلك التجربة التي أرادوا أن يفسدوا بها على المسلمين دينهم، وأن يدخلوا الشك عليهم من جهته، وهذه الطائفة هي من جماعة اليهود، الذين يكيدون للإسلام ويتربصون به.
وانظر كيف سوّلت لهم أنفسهم، وإلى أين قادهم الحقد ودفع بهم الحسد؟
لقد ائتمروا فيما بينهم، وتخيروا جماعات منهم يدسونهم في الإسلام، ويدخلونهم مع المسلمين، على حساب أنهم دخلوا في الإسلام، وصاروا من المسلمين.
هذه هي المرحلة الأولى من مراحل التجربة.
وإذا دخلت هذه الجماعة في الإسلام، وحسبت في المسلمين، فإن لها أن تحدّث عن الإسلام، وأن تقول قولتها فيه، وفيما وجدت منه! وما ذا لو أنّها قالت في الإسلام قولة السوء؟ وما ذا لو رمت الإسلام بكل نقيصة ومعيبة؟
أليست لسانا من ألسنة المسلمين؟ وأليس ما تقوله عن علم وتجربة؟ ومن ذاق عرف، كما يقولون؟ إن ذلك من شأنه أن يحدث اضطرابا وحلخلة في المجتمع الإسلامى، وأن يثير شكوكا في قلوب الضعفاء والجهلة، وعند من لم ترسخ أقدامهم بعد على طريق الإسلام.
ذلك ما قدره أصحاب هذه اللعبة لتجربتهم الصبيانية تلك.
وقد جاء أمرهم على غير ما قدروا ودبّروا! فبدلا من أن يثيروا البلبلة والاضطراب في محيط الإسلام والمسلمين، وقع الاضطراب والبلبلة في جماعتهم هم، وإذا كثير من هؤلاء الذين أرسلوهم ليكونوا كلاب صيد في حمى الإسلام، صادهم الإسلام، وعلقوا في حباله.. فما أن عاش بعضهم في الإسلام ساعات حتى استولت عليه روح الإسلام، وطردت من كيانه نوازع الزيغ والضلال، فدخل في الإسلام عن يقين، بعد أن كان قد غشى حماه للكيد والإفساد.
ومن غلبت عليه شقوته من كلاب الصيد هذه، فلم يدخل الإسلام ولم يعتقده، عاد إلى جماعته مثخنا بالجراح، فلم يصبح مسلما، ولم يعد كافرا.، بل تحوّل إلى منافق، يتردد أمره بين الإيمان والكفر..!
من أجل هذا كان من وصاة تلك الجماعة المتآمرة، لمن ترسلهم من كلاب الصيد هذه- كانت وصاتهم لهم: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} يحذّرونهم من أن يلقوا أسماعهم إلى المسلمين، وأن يفتحوا قلوبهم إلى ما يحدّثونهم به من الإسلام، وإلا ساءت العاقبة، وفسد التدبير! وقد شاء اللّه أن تسيئ العاقبة، عاقبة تلك الجماعة المتامرة، وأن يفسد تدبيرها. ويسوء مصيرها. فتعلو كلمة الإسلام، ويموت الشانئون والكائدون، غيظا وكمدا!